الحكاية رقم 1

يروق لي اللعب فى الساحة بين القبور والتكية . ومثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية . أوراقها الخضر هى ينابيع الخضرة الوحيدة فى حارتنا . و ثمارها السود مثار الأشواق فى قلوبنا الغضة . وها هى التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة ، بوابتها مغلقة عابسة ، دائما مغلقة ، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق فى البعد والانطواء والعزلة ، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر .

وأحيانا يلوح فى الحديقة ذو لحية مرسلة و عباءة فضفاضة وطاقية مزركشة فنهتف كلنا.
-- (( يا درويش .. إن شا الله تعيش )) .

ولكنه يمضى متأملا الأرض المعشوشبة أو يتمهل عند جدول ماء ، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلى .

-- من هؤلاء الرجال يا أبى ؟
-- إنهم رجال الله ..
ثم بنبرة ذات معنى :
-- ملعون من يكدر صفوهم !

ولكن قلبى مولع بالتوت وحده .


و ينهكني اللعب ذات يوم فأجلس عل الأرض لأستريح ثم أغفو . أستيقظ فأجدنى وحيدا فى الساحة ، حتى الشمس توارت وراء السور العتيق ، و نسائم الربيع تهبط مشبعة بأنفاس الأصيل . على أن أمرق من القبو إلى الحارة قدأن يدلهم الظلام . وأنهص متوثبا ولكن  إحساسا خفيا يساورنى بأنني غير وحيد ، وأنني أهيم فى مجال جاذبية لطيف ، وأن ثمة نظرة رحيبة تستقر على قلبى ، فأنظر ناحية  التكية . هناك تحث شجرة التوت الوسيطة يقف رجل . درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبل .طاعن فى الكبر ، مديد فى الطول ، وجهه بحيرة من نور مشع . عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء و فخامته فوق كل تصور وخيال ومن شدة حملقتي فيه أثمل بنوره فيملأ منظره الكون . و خاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان و ولي الأمر ، وأنه ودود بخلاف الآخرين . أقترب من السور ثم أقول بابتهال :

-- إني أحب التوت ..
فلم ينبس و لم يتحرك قأتوهم أنه لم يسمعني ، أكرر بصوت أعمق :
-- إني أحب التوت ..
يخيل إلي أنه يشملني بنظرة ، وصوته الرخيم يقول :
-- (( بلبلي خون دلي خورد و كلي حاصل كرد )) .
يخيل إلي رمى إلي بثمرة قأنحني نحو الأرض لألتقطها فلا أعثر على شىء ثم أستقيم فأجد مكانه خاليا ، والظلمة تغشى الباب الداخلى .


وأقص القصة على أبي فيرمقني بارتياب فأؤكدها له ليقول :

-- تلك الأوصاف لا تكون إلا للشيخ الكبير ولكنه لا يغادر خلوته!
فأحلف له على صدقي بكل مقدس فيسألني :
-- ترى ما معنى الرطانة التي حفظتها ؟
-- سمعتها مرارا ضمن تراتيل التكية ..
فيصمت أبي مليا ثم يقول :
-- لا تخبر بذلك أحدا .
و يبسط يديه ثم يتلو الصمدية .
و أهرع إلى الساحة فأتخلف وحدي بعد ذهاب الصبيان . أنتظر ظهور الشيخ فلا يظهر . أهتف بصوتي الرفيع :
-- (( بلبلي خون دلي خورد و كلي حاصل كرد )) .
فلا يجيب . أعاني بلاء الانتظار و هو لا يرحم لهفتي .


و أتذكر الحادثة فى زمن متأخر ، أتساءل عن حقيقتها ، هل رأيت الشيخ حقا أو ادعيت ذلك استوهابا للأهمية ثم صدقت نفسى ؟

هل توهمت ما لا وجود له من أثر النوم ولكثرة ما يقال فى بيتنا عن الشيخ الكبير ؟. هكذا أفكر ، و إلا فلماذا لم يظهر الشيخ مرة اخرى ؟. و لماذا ثجمع الناس على أنه لا يغادر خلوته ؟. هكذا خلقت أسطورة وهكذا بددتها . غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت فى أعماق نفسي كذكرى مفعمة بالعذوبة . كما أننى ما زلت مولعا يالتوت .

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ