الحكاية رقم 10

أم عبده أشهر امرأة في حارتنا. في قوة البغل و جرأة الفتوة، حتى زوجها سواق الكارو يتراجع أمام عنفها. و لها بنتان جميلتان، دولت و إحسان. في أي موقع من حارتنا تحظى بالتودد، من التاجر و العامل و البائع و الصعلوك، كل أسرة لها عمل و أجر، هي الوسيطة و الشفيعة و الخاطبة و الدلالة و الماشطة، و عند الخصومة فهي القوة التي تبطش بالخصم.

و تزور أمي أحيانا فتحكي لها عن أحوالها. و قد يقتضي الأمر تمثيل ما وقع في آخر مشاجرة شاركت فيها فيرتفع صوتها و يتهدج بالغضب و السب و القذف حتى يتوهم السامع أن التمثيل مشاجرة حقيقة..
و هي تجاملنا في المواسم فتجيئنا بالكارو لتمضي بنا إلى زيارة المغاوري و أبى السعود طبيب الجراح.

و أنا الرسول الذي يوفد إلى بيتها عند الحاجة. أذهب إليه بقلب طروب يتوق إلي رؤية الحمار المربوط إلى وتد الفناء، و يتوق للقرب من دولت و إحسان. دولت فتاة طيبة، تفك الخط و تحفظ بعض سور القرآن. يحبها شاب متعلم من حارتنا فيتزوج منها متخطيا الفوارق و مجارفا بمصاهرة أم عبده. إحسان صورة مصغرة من أمها في أخلاقها و لكنها باهرة الجمال. مطبوعة على العنف و الجرأة و البذاءة، تتحدى أمها نفسها فتنشب بينهما المعارك المثيرة. و يطلب يدها فتيان كادحون و لكنها ترفضهم تطلعا لفرصة فريدة كما حدث لأختها دولت. و إني صديقها رغم فارق السن. غرائزي الكامنة ترسل إنذارات خفية تمتزج في عيني بأشواق مبهمة. يبهرني حجمها المترامي و أعضاؤها الثرية المتراقصة. و تدعوني أحيانا لأساعدها و هي تغسل في الفناء. أحمل إليها صفيحة الماء من عارضتها الخشبية و أمضي كالمترنح من ثقلها. أجلس قبالتها لأتسلم منها الملابس بعد عصرها لأكومها في الطشت. في أثناء ذلك تتلصص عيناي و هي ترامق تطلعاتي باسمة.

و تقول لي ذات مره:
-- خذ منديلي و اذهب به إلى الشيخ لبيب.
و أذهب إلى الشيخ لبيب و مجلسه قبيل القبو. يتربع على فروة بجلبابه المزركش و طاقيته البيضاء، مكحول العينين مزجج الحاجبين. أعطيه المنديل و مليما و قطعة سكر، فيشم المنديل و و بتفكر مليا ثم يقول:
-- عما قريب يمتلئ الكرار و يغني العصفور..

و أرجع إليها و أنا اردد ما سمعته لأحفظه، و يسعدني دائما أن أؤدي لها خدمة من الخدمات.
و يطلب يدها صاحب محل فراشة، غني في الخمسين ذو زوجة و أولاد، فتتزوج منه. تعاشره عامين ثم تختفي من بيته و من الحارة جميعا مخلفة وراءها ضجة و عارا و إصابة في كبرياء أم عبده.

و ذات ليلة من ليالي الزمن الجاري الذي لا يتوقف أجدني وجها لوجه مع إحسان. ترقص و تغني:
عومي على الميه ... يا بت يا شاميه
و تراني فيشع من عينها نور العرفان. أقف ذاهلا و لكنها تتلقاني ببساطة و بابتسامة مشجعة. تقبل نجوي فتأخذني من يدي إلى حجرتها ثم تغلق الباب و تغرق في الضحك. و تقول لي بعد أن جلسنا:
-- الدنيا واسعة و لكنها في النهاية كالحق.
و أتفرس قي وجهها فتسألني عن أمها قائلة:
-- كيف حال أم عبده؟
-- عال.
-- و دولت أختي؟
-- بكريها في المدرسة.
-- و والدتك و أخواتك؟
-- بخير.
فتقول بمودة:
-- زرني كثيرا.
و أسألها بعد تردد:
-- كيف جئت إلى هنا؟
فتضحك و تقول ساخرة:
-- من نفس الطريق التي جئت بها منها أنت!

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 9 *

خبر يتردد في البيت و الحارة.
تقول إحدى الجارات لأمي:
-- أما سمعت بالخبر العجيب؟
فتسألها باهتمام فتقول:
-- توحيدة بنت أم علي بنت رجب!
-- ما لها كفى الله الشر؟
-- توظفت في الحكومة!
-- توظفت في الحكومة؟
-- إي والله.. موظفة.. تذهب إلى الوزارة و تجالس الرجال!
-- لا حول و لا قوة إلا بالله.. إنها من أشرة طيبة.. و أمها طيبة..
و أبوها رجل صحيح!
-- كلام.. أي رجل يرضى عن ذلك؟
-- اللهم استرنا يا رب في الدنيا و الآخرة..
-- يمكن لأن البنت غير جميلة؟
-- كانت ستجد ابن الحلال على أي حال..

و أسمع الألسن تلوك سيرتها في الحارة، تعلق و تسخر و تنتقد، و كلما لاح أبوها عم رجب أسمع من يقول:
-- اللهم أحفظنا..
-- يا خسارة الرجال!

توحيدة أول موظفة من حارتنا. و يقال إنها زاملت أختي الكبرى في الكتاب. و يحفزني ما سمعتها عنها إلى التفرج عليها حين عودتها من العمل. أقف عند مدخل الحارة حتى أراها و هي تغادر سوارس، أرنو إليها و هي تدنو سافرة الوجه مرهقة النظرة سريعة الخطوة بخلاف النساء و البنات في حارتنا. و تلقي علي نظرة خاطفة أو لا تراني على الإطلاق ثم تمضي داخل الحارة.

و أتمتم مرددا كالببغاء:
-- يا خسارة الرجال!

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 8

مواسم القرافة تعد من أسعد أيامي البهيجة. نشرع في الاستعداد لها مع العشى بإعداد الفطير و التمر. و في الصباح الباكر أمضي بين أبي و أمي حاملا الخوص و الريحان، تتقدمنا الخادمة بسلة الرحمة.

يسرني تدفق تيارات الخلق، و طوابير الكارو، و أعرف باب الحوش كصديق قديم. و يجذبني القبر بتركيبه الوقور المنعزل و شاهديه الشامخين، و سره المنطوي، و بإجلال والدي له، كما تجذبني شجيرة الصبار. و تحت قبة السماء تنطلق مني وثبات فرح. و دفقات استطلاع لا يكدرها شيء، ثم تتم المسرات بمراقبة المقرئ الضرير و جماعات الشحاذين المتكالبين على الرحمة.

و تتغير الصورة بدخول همام في إطارها.
تجيء أختي و ابنها للإقامة عندنا فترة من الزمن. همام في الرابعة أو يزيد عنها قليلا، أجد فيه رفيقا ذا حيوية و جاذبية، يخرجني بمؤانسته من وحدتي. جميل خفيف الروح، يلاعبني بلا ملل و يصدق أكاذيبي و أوهامي.

و أجده ذات يوم راقدا و صامتا، أدعوه إلى اللعب و لكنه لا يستجيب، و أخبر بأنه مريض..
و بطبق على الجو اهتمام و حذر، و يتفشى فيه ضيق و كدر، و أتلقى أحاسيس مبمهة و غير سارة، و يزيد من تعاستي قلق أمي و جزع أختي ثم حضور زوجها..
و أسأل عما يحدث فأبعَد عن المكان و يقال لي:
-- لا شأن لك بهذا.. العب بعيدا..

و لكني أشعر بأن حدثا غير عادي يحدث..
إنه خطير حتى إن أمي تبكي. و أختي تصرخ. و ألمح من بعيد صديقي مغطى فوق الفراش مثل وسادة. لم يترك له متنفس. و أخيرا يتردد اسم الموت من قريب. و أفهم أنه فراق يطول فأبكي مع الباكين، و يتألم قلبي أكثر مما يجوز لسنه.

لا تعود زيارة القبر من أيامي البهيجة، و يتغير وقع منظره. أود أن أطلع على خفاياه، و أتلقى الكآبة من صمته. و لا أنغلب على لوعة الفراق مع كر الأيام. إنه الحزن و الحب الضائع و الخوف و الذكرى القاسية و إرهاق أسرار الغيب.

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 7

في ليالي الصيف نسهر فوق السطح، نفرش الحصيرة و الشلت، نستضئ بأنوار النجوم أو القمر، تلعب من حولنا القطط، يؤنسنا نقيق الدجاج. و تنضم إلينا في بعض الأحيان أسرة جارنا الحاج بشير. و هي أسرة شامية مكونة من أم و ثلاث بنات كبراهن في العاشرة. يحلو لهن في أوقات السرور لن يغنين معا أغنيات جبلية فأتابع الغناء بشغف يقارب شغفي بالبشرة البيضاء و الأعين الملونة. أهيم بالأم و بناتها و ألح في طلب
السماع، و يستخفني الطرب فأشارك في الغناء و أحرز في ذلك نجاحا و إعجابا حتى تقول جارتنا:
-- ما أحلى صوتك يا ولد!

و أجد في مجتمع الليل فرصة للكشف عن موهبتي الصوتية كما يجد فيه قلبي الصغير نشوته في حضرة البهاء الأنثوي. و يصبح الغناء هوايتي، و سماع أسطوانات المهدية قرة عيني، أما أغنيات الجبل فينشدها قلبي و حنجرتي معا.

و تقول جارتنا لأمي ذات يوم:
-- الولد له صوت جميل.
فتقول أمي بسرور:
-- حقا؟
-- لا يجوز إهماله!
-- فليغن كيف شاء فهو أفضل من العفرته.
-- ألا تودين أن يكون ابنك مطربا؟
فتؤخذ أمي و لا تجيب فتواصل الجارة:
-- ما له سي أنور و سي عبداللطيف؟
-- إني أحلم أن أراه يوما موظفا مثل أبيه و إخوته..
-- المغنى يربح أكثر من مصلحة الحكومية.
و أصغي باهتمام و أنا جالس على حجر الجارة مزهوا بالدفء و المجد.

و لا تدوم أيام السعادة و الفن طويلا فذات يوم أرى أمي تهز رأسها بأسف و تتمتم:
-- يا للخسارة!
فأسألها عما يؤسفها فتقول:
-- جيراننا الطيبون راحلون إلى بر الشام.
ينقبض قلبي بالرغم من أنني لا أحيط بأبعاد الخسارة و أسأل:
-- أهو بعيد؟
فتجيب بحزن:
-- أبعد مما نستطيع أن نبلغه.

أود من صميم قلبي أن أغير الواقع، أن أرجع الزمن إلى أمس، ولكن كيف؟
و أودعهم للمرة الأخيرة و هم يستقلون الحانطور و أقبل يد الحاج بشير. و أتبع الحانطور نظري حتى يخفيه منعطف النحاسين. و أبكي طويلا و أعناي مذاق الفراق و الكآبة و الدنيا الخالية..


-


المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 6

على حصيرة واحدة نقعد صبيانا وبنات في الكتاب. نتلو الآيات بصوت واحد و لا نفرق مقرعة سيدنا الشيخ بين قدم صبي وقدم بنت. وقت الغداء يتربع كل منا مستقبلا الجدار بوجهه، يفك الصرة و يفرش منديله كاشفا عن الرغيف و الجبن و الحلاوة الطحينية.

تسترق عيناني النظر إلى درويشة و هي تقرأ أو تأكل. في الطريق أتبعها حتى تميل إلى الزقاق المسدود ثم أسير إلى بيتي حاملا لوحي و صورتها.

و في موسم القرافة أضيق بالمكوث في الحوش فأمرق إلى الخارج فنتلاقى -- أنا و درويشة -- بين القبور المكشوفة بلا تدبير.

و أشطر فطيرتي فأعطيها نصف، نأكل و نتبادل النظر.
-- أين تلعبين؟
-- في الزقاق.

هي تلعب فى الزقاق المتفرع من الحارة و أنا لا أجرؤ على التسلل إليه في النهار. يمنعني إحساس خفي و لكنه غد بريء. ونتواعد بالنظر و بلا كلام. و مع المساء أدخل الزقاق فأجدها واقفة على عتبة الباب.

نقف شبحين صامتين يكتنفنا الذنب و الظلام


نقف شبحين صامتين يكتنفنا الذنب و الظلام
-- نجلس؟
و لكنها لا تجيب.

أجلس على العتبة و أشدها من يدها فتجلس. أتزحزح حتى نتلاصق. يغمرني شعور بسرور غريب ذي أسرار. أمد يدي إلى ذقنها فأدير وجهها إلي. أميل نحوها فأقبلها. أحيط خاصرتها بذراعي. أصمت و أهيم و أذوب في دفقة إحساس مبهمة فأعرف السكر قبل الخمر.

و ننسى الوقت و الخوف
و ننسى الأهل و الحارة
حتى الأشباح لا تفرقنا

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 5

اليوم سعيد
ساذهب فى صحبة أمي إلى زيارة حرم المأمور.
هطلت الأمطار فى الصباح الباكر ولكن الجو رق وصفا عند الضحى وأشرقت الشمس. المياه تغمر فجوات الطريق وتخدد جوانبه و لكننى سعيد بزيارة حرم المأمور.

امرأة عملاقة، سمراء دكناء، فى نقرة ذقنها وشم، و نبرتها ريفية غريبة، وضحكتها عالية، و قطتها غزيرة الشعر نقية البياض و دائما تسيح بذكر الله.

و تعانق أمي مرحبة و أنا أنتظر. تلتفت نحوي ضاحكة و هي تعبث بشعر رأسي، ترفعني بين يديها فأرتفع فوق الأرض عاليا. تضمني إلى صدرها فأغوص في أعماق طرية، و أشعر ببطنها مثل حشية و ثيرة ينبعث منها إلى جوارحي دفء مؤثر.

أسير وراهما و أنا أسوي ما تشعث من شعري و ملابسي و لما أفق من نفحة الدفء.
و تقول لأمي:
-- بت أومن بأن القبو مسكون بالعفاريت.
فتبسمل أمى فتقول الأخرى:
-- إنهم يخرجون عقب منتصف الليل.
فتقول لها أمى محذرة:
-- إياك و أن تنظري من النافذة.

و ألاعب أنا القطة حتى تتوارى تحت الكنبة. أنظر إلى رأس ثور مثبت فى الجدار فوق سيفين متقاطعين متمنيا للوصول إليه. المضيفة تقدم لي قطعة هريسة قأتناولها. أمني النفس بحضن دافئ آخر عند انتهاء الزيارة.

و يطول الحديث و يتشعب.
و تشعل المرأة المصباح الغازي المدلى من السقف.
تدور حول المصباح فراشة.
أتساءل متى تجيء لحظة الوداع الواعدة بالدفء؟

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 4

و أنا ماض نحو القبو ينفتح باب بيت القيرواني تاجر الدقيق وتبرز منه بناته الثلاث. منبع نور يتدفق فيبهر القلب والبصر. بيضاوات ملونات الشعر و الأعين سافرات الوجوه ينفثن ملاحة نقية. الدوكار ينتظرهن فأتسمر أنا بين الدوكار وبينهن. و يرين ذهولي  فتضحك وسطاهن و هي أشدهن امتلاء وأغلظهن شفة وتقول:
-- ما له يسد الطريق!
لا أتحرك فتخاطيبني مداعبة:
-- أفق يا أنت!
و أقول متأثرا بدفقة حياة مبهمة:
-- بلبلي خون دلي خورد و كلي حاصل كرد.
فيغرقن في الضحك و تقول الكبرى:
-- إنه درويش.
فتقول الوسطى:
-- إنه مجنون!

و ألقي بنفسي فى ظلمة القبو فامضي مهرولا حتى أخرج إلى نور الساحة أمام التكية. في رأسي حماس و في قلبي نذير نشوة البراعم قبل أن تتفتح.

صورهن الباهرة  مستكنة في متحف الأعماق.
بذور حب لم يتح لها أن تنمو لأنها غرست قبل أوانها.

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 3

اليوم جميل ولكنه يعبق بسر.
أبي ينظر إلي باهتمام. يبتسم لي برقة و هو يحتسي قهوته. و هو يهم بالذهاب يداعب شعري ويرتب على منكي بحان ثم يمضي.

و أمى تقوم بعملها اليومي بعصبية، تغضى عن عبثي وتقول لي مشجعة:
-- العب يا حبيبي..
لا نظرات و تهديد و لا زجر و لا وعيد.

و أصعد إلى السطح بعض الوقت و لما أرجع أجد أمامي جارتنا الشامية أم برهوم. أعدو ‘لى المطبخ لأخبر أمي و لكني لم أجدها. و أنادي عليها بلا جدوى فتقول لي أم برهوم:
-- نينتك ذهبت في مشوار، و أنا معك حتى ترجع..
قأقول محتجا:
-- و لكني أريد أن ألعب في الحارة.
-- و تتركني وحدي وأنا ضيقتك؟
و أصبر متضايقا.

ويدق الباب فتومئ لي بالانتظار وتذهب. تغيب دقيقة و إذا بعم حسن الحلاق و مساعده يدخلان باسمين فقلت لهما من فوري:
-- أبي خرج.
فقال العجوز:
-- نحن ضيوف!، سنريك لعبة فريدة.

وجلس على كنبة و هو يبسمل ثم قال و هو يخرج من حقيبته أدوات بيضاء لامعة:
-- يسرك بلا شك أن تتعلم كيف تستعمل هذه الأدوات.
و أهرع نحوه متملصا من ارتباكي!
و يجيء مساعده بمقعد فيجلسني عليه أمام المعلم قائلا:
-- هكذا أفضل.

و إذا بيديه تكبلاني من الذراعين و الساقين بقوة و إحكام فكأنها
ألصقت بالغراء و المسامير، فصرخت غاضبا:
-- ابعد عني.
و استغثت بأم برهوم و لكنها كانت فص ملح ذاب..

و لم أفهم شيئا مما يحدث حتى بدأت العملية الرهيبة، ها أنا أعاني هجمة وحشية طاغية لا أستطيع لها دفعا و لا منها مفرا. و ها هو الألم الحاد القاسي ينشب أظافره الشوكية فى لحمي و ينساب بمكر شيطان إلى أطراف جسمي و صميم قلبي. و ها هو صراخى يدك الجدران و يجتاح أرجاء حارتنا.

لا أدري ماذا يدور مدة من الزمن. أغوص فى الماء بين اليقظة والنوم. تمر بى أجيال من الألوان و المخاوف و الأحزان.
وعند نقطة من الزمن تلوح لي أمي بوجه يرنو بالاعتذار و التشجيع.
و قبل أن أفتح فمي محتجا أو متهما تضع بين يدي هدايا الشكولاته والملبس.
و أعيش أياما بين ذكريات أليمة و كنوز من الحلوى بألونها البهيجة.. و يمتلئ البيت يالإخوة و الأخوات. و أنتقل من مكان إلى مكان مفرجا بين فخذي مبعدا بيدي الجلباب عن جسدي.

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

الحكاية رقم 2

شمس الضحى تسطع و السماء صافية. من موقفي فوق السطح أرى المآذن والقباب، و أرى غرابا واقفا على وتد مغروز فى سور السطح مربوط به حبل الغسيل. أرمق السطح الملاصق فيتحلب ريقي. تحدثنى نفسي بأن أذهب إلى ست أم زكى لأحظى بشيء من الحلوى. وأعبر السور. أمضى نحو المنور ، أطل من نافذة فيه مخلوعة الزجاج، أرى تحت المنور مباشرة ست أم زكى عارية تماما. تجلس على كنبة تتشمس، تمشط شعرها، عارية تماما.. منظر غريب و باهر، وهي فى ضخامة بقرة.

و أهتف:
-- يا تيزة!
ترتعب، تنظر إلى فوق، لا تلبث أن تضحك، تصيح بي:
-- ياعكروت .. انزل ..
أهبط بسرعة ثم أقف عند الباب بحذر مبهم وأتساءل:
-- أدخل؟
وتسمح فأدخل، أقترب من مجلسها فترمقنى بنظرة باسمة وتقول:
-- وقعت يا بطل ..
وتستلقي على بطنها و تقول:
-- دلك لي ظهري.
أشمر عن ساعدي، أدلك ظهرها بحماس و رضا، أشم رائحة جسد
بشرى معبق بالصابون والقرنفل، وهى تتمتم:
-- تسلم يداك!
ثم بمزاح:
-- أنت عفريت من الجنة!
ثم وهى تضحك:
-- الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح.
ويزداد حماس فى العمل فتقول:
-- ارفع يدك لفوق يا شيطان، هل ستخير أمك؟
-- كلا.
فتضحك وتقول:
-- وعارف أيضا أنه يوجد ما لا يقال، حقيقة أنك شيطان، هل
تعلمت التدليك فى الكتاب؟ ماذا تدرس فى الكتاب؟
-- الفاتحة وألف باء.
-- ربنا يحفظك وأشوفك ماشطة، ماذا ستأكل اليوم؟
-- بامية.
-- عظيم سأتغدى عندكم.

زيارتها لبيتنا ندوات للبهجة والمرح، تنثال الملح من فيها بلا حساب، وكذلك النكاب المكشوفة، فتحاول أمي أن تبعدنى و لكني أرجع، وتشير لها إشارات خفية محذرة فاتشبث بالبقاء وتتمادى هى في الدعاية.

وتسألها أمى معاتبة:
-- متى تصلين وتصومين؟
فتجيب:
-- في آخر شهر قبل يوم القيامة.


في الخمسين، مهذارة مرحة طروب و لكنها لم تنزلق لسوء. وعمل ابنها زكى نجارا فى حارتنا فسار بين الناس مرفوع الرأس. وهي تدمن التدخين والقهوة و سماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، فى كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك فى مشاجرة واحدة فى حارتنا الحافلة بالمشاحنات.



و تتنهد أمي ذات يوم وتقول:

-- مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاك و يشفيك..


تتوعك صحتها، و تأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثقبث، يترهل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، و تخيب فى شفائها كافة الوصفات. و تفتى حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضا من الأمراض المعروفة ولكنه فعل من أفعال « الأسياد » و ألا شفاء لها إلا يالزار. و يجيء اليوم المشهود فيكتظ بيت جارتنا بالنساء، و يعبق البخور، و تتسلط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهن الغموض و الأسرار. و أطل برأسي من المنور فأرى صديقتى في مشهد جديد، تجلس على عرش فى عباءة مزركشة بالتلى والترتر، متوجة الرأس بتاج من العاج تتدلى منه عناقيد الخرز مختلف الألوان، منقوعة القدمين فى وعاء من ماء الورد تستقر في قعره حبات من البن الأخضر. و تدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فنموج القاعة بالحركات، وتتوهج بالتأوهات، و تذوب الأجساد فى الأرواح. وها هي أم زكي تتلوى بعنف كأنما ردت إلى جنون الشباب، و عن فيها المزين بالأسنان المذهبة يصدر صفير حاد، ثم تركض دائرة حول العرش، و يتحول ركضها إلى اندفاع رهيب، و تدور حتى تترنح من الإعياء و تتهاوى مغشيا عليها..

و جلجلت زغرودة و ارتفع صوت مبتهلا:
-- ليشهدنا خاثم الرسل الكرام.


و ها هى الأيام تمر.

و صحة صديقتي لا تتحسن.
لا تمزح الآن و لا تضحك و تتساءل فى جزع:
-- ماذا جرى لي؟.. ماذا جرى لي يارب؟!. أين أنتي يا أم زكي!!
و يضطر المعلم زكي أخيرا إلى نقلها إلى قصر العيني. وتودع عيناي
الدامعتان الكارو و هي تتأرجح بها. و تلمحني واقفا فتلوح لي بيدها
وتقول:
-- ادع لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار.
فأرفع عيني إلى السماءوأتمتم: ((يارب.. رجع لنا تيزة أم زكي)).
و لكن كأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق الواق.

-

المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ