الحكاية رقم 12

ماذا يحدث للدنيا؟
يجتاحها طوفان، يقلقلها زلزال، تشتعل بأطرافها النيران، تتفجر بحانجرها الهتافات..

الميدان يكتظ بلآلاف، لم يقع ذلك من قبل، هديرهم يرج جدران حارتنا و يصم الآذان، إنهم يصرخون، و بقبضات أيديهم يهددون، و حتى النساء يركبن طوابير الكارو و يشاركون في الجنون..

و أحملق فيما يجري من فوق سور السطح و أتساءل عما يحدث في الدنيا..
و تتلاطم الأحاديث مشحونة بكهرباء الوجدان، و ينهمر سيل من الألفاظ الجديدة السحرية، سعد زغلول، مالطة، السلطان، الهلال و الصليب، الوطن، الموت الزؤام..

الأعلام ترفرف فوق الدكاكين، صور سعد زغلول تلصق بالجدران، إمام المسجد يظهر في شرفة المئذنة و يهتف و يخطب.

و أقول لنفسي إن ما حدث غريب و لكنه مثير و مسل شديد البهجة. غير أنني أشهد مطاردة.
يندفع الناس داخل حارتنا، يرمون الطويب، يتحصنون بالأركان. يقتحم الحارة فرسان بقبعاتهم العالية و شواربهم الغليظة. تنطلق أصوات حادة مخيفة تعقبها صرخات، أنزع من مكان المراقبة إلى الداخل فتطالعني وجوه مذعورة و همسات تقول:
-- إنه الموت.
نرهف السمع وراء النوافذ المغلقة، لا شيء إلا أصوات متضاربة، و قع أقدام، صهيل خيل، أزير رصاص، صرخة موجعة، هتاف غاضب.

يتواصل ذلك دقائق في الحارة ثم يسود الصمت.
و يتردد الهدير و لكن __ هذه المرة __ من بعيد.. ثم يسود صمت مطلق.
و أقول لنفسي إن ما يحدث غريب و مزعج و مخيف.

و أعرف بعض الشيء معناي الألفاظ الجديدة، سعد زغلول، مالطة، السلطان، الوطن، و أعرف بوضوح أكثر الفرسان البريطانيين و الرصاص و الموت.

تزورنا أم عبده في غاية من الانفعال، تحكي حكايات عن الضحايا و الأبطال، و تنعى إلينا علوة صبي الفران، و تؤكد أن جياد الفرسان حرنت أم سور التكية و ألقت الفراسان عن متنها..
و أقول لنفسي إن ما يحدث حلم مثير لا يصدق.

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

No comments:

Post a Comment