الحكاية رقم 3

اليوم جميل ولكنه يعبق بسر.
أبي ينظر إلي باهتمام. يبتسم لي برقة و هو يحتسي قهوته. و هو يهم بالذهاب يداعب شعري ويرتب على منكي بحان ثم يمضي.

و أمى تقوم بعملها اليومي بعصبية، تغضى عن عبثي وتقول لي مشجعة:
-- العب يا حبيبي..
لا نظرات و تهديد و لا زجر و لا وعيد.

و أصعد إلى السطح بعض الوقت و لما أرجع أجد أمامي جارتنا الشامية أم برهوم. أعدو ‘لى المطبخ لأخبر أمي و لكني لم أجدها. و أنادي عليها بلا جدوى فتقول لي أم برهوم:
-- نينتك ذهبت في مشوار، و أنا معك حتى ترجع..
قأقول محتجا:
-- و لكني أريد أن ألعب في الحارة.
-- و تتركني وحدي وأنا ضيقتك؟
و أصبر متضايقا.

ويدق الباب فتومئ لي بالانتظار وتذهب. تغيب دقيقة و إذا بعم حسن الحلاق و مساعده يدخلان باسمين فقلت لهما من فوري:
-- أبي خرج.
فقال العجوز:
-- نحن ضيوف!، سنريك لعبة فريدة.

وجلس على كنبة و هو يبسمل ثم قال و هو يخرج من حقيبته أدوات بيضاء لامعة:
-- يسرك بلا شك أن تتعلم كيف تستعمل هذه الأدوات.
و أهرع نحوه متملصا من ارتباكي!
و يجيء مساعده بمقعد فيجلسني عليه أمام المعلم قائلا:
-- هكذا أفضل.

و إذا بيديه تكبلاني من الذراعين و الساقين بقوة و إحكام فكأنها
ألصقت بالغراء و المسامير، فصرخت غاضبا:
-- ابعد عني.
و استغثت بأم برهوم و لكنها كانت فص ملح ذاب..

و لم أفهم شيئا مما يحدث حتى بدأت العملية الرهيبة، ها أنا أعاني هجمة وحشية طاغية لا أستطيع لها دفعا و لا منها مفرا. و ها هو الألم الحاد القاسي ينشب أظافره الشوكية فى لحمي و ينساب بمكر شيطان إلى أطراف جسمي و صميم قلبي. و ها هو صراخى يدك الجدران و يجتاح أرجاء حارتنا.

لا أدري ماذا يدور مدة من الزمن. أغوص فى الماء بين اليقظة والنوم. تمر بى أجيال من الألوان و المخاوف و الأحزان.
وعند نقطة من الزمن تلوح لي أمي بوجه يرنو بالاعتذار و التشجيع.
و قبل أن أفتح فمي محتجا أو متهما تضع بين يدي هدايا الشكولاته والملبس.
و أعيش أياما بين ذكريات أليمة و كنوز من الحلوى بألونها البهيجة.. و يمتلئ البيت يالإخوة و الأخوات. و أنتقل من مكان إلى مكان مفرجا بين فخذي مبعدا بيدي الجلباب عن جسدي.

-
المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

No comments:

Post a Comment