الحكاية رقم 7

في ليالي الصيف نسهر فوق السطح، نفرش الحصيرة و الشلت، نستضئ بأنوار النجوم أو القمر، تلعب من حولنا القطط، يؤنسنا نقيق الدجاج. و تنضم إلينا في بعض الأحيان أسرة جارنا الحاج بشير. و هي أسرة شامية مكونة من أم و ثلاث بنات كبراهن في العاشرة. يحلو لهن في أوقات السرور لن يغنين معا أغنيات جبلية فأتابع الغناء بشغف يقارب شغفي بالبشرة البيضاء و الأعين الملونة. أهيم بالأم و بناتها و ألح في طلب
السماع، و يستخفني الطرب فأشارك في الغناء و أحرز في ذلك نجاحا و إعجابا حتى تقول جارتنا:
-- ما أحلى صوتك يا ولد!

و أجد في مجتمع الليل فرصة للكشف عن موهبتي الصوتية كما يجد فيه قلبي الصغير نشوته في حضرة البهاء الأنثوي. و يصبح الغناء هوايتي، و سماع أسطوانات المهدية قرة عيني، أما أغنيات الجبل فينشدها قلبي و حنجرتي معا.

و تقول جارتنا لأمي ذات يوم:
-- الولد له صوت جميل.
فتقول أمي بسرور:
-- حقا؟
-- لا يجوز إهماله!
-- فليغن كيف شاء فهو أفضل من العفرته.
-- ألا تودين أن يكون ابنك مطربا؟
فتؤخذ أمي و لا تجيب فتواصل الجارة:
-- ما له سي أنور و سي عبداللطيف؟
-- إني أحلم أن أراه يوما موظفا مثل أبيه و إخوته..
-- المغنى يربح أكثر من مصلحة الحكومية.
و أصغي باهتمام و أنا جالس على حجر الجارة مزهوا بالدفء و المجد.

و لا تدوم أيام السعادة و الفن طويلا فذات يوم أرى أمي تهز رأسها بأسف و تتمتم:
-- يا للخسارة!
فأسألها عما يؤسفها فتقول:
-- جيراننا الطيبون راحلون إلى بر الشام.
ينقبض قلبي بالرغم من أنني لا أحيط بأبعاد الخسارة و أسأل:
-- أهو بعيد؟
فتجيب بحزن:
-- أبعد مما نستطيع أن نبلغه.

أود من صميم قلبي أن أغير الواقع، أن أرجع الزمن إلى أمس، ولكن كيف؟
و أودعهم للمرة الأخيرة و هم يستقلون الحانطور و أقبل يد الحاج بشير. و أتبع الحانطور نظري حتى يخفيه منعطف النحاسين. و أبكي طويلا و أعناي مذاق الفراق و الكآبة و الدنيا الخالية..


-


المصدر: كتاب حكايات حارتنا للأديب نجيب محفوظ

No comments:

Post a Comment